فصل: تفسير الآيات رقم (20- 22)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏70‏)‏‏}‏

الاستثناء من العموم الذي أفادته ‏{‏مَن‏}‏ الشرطية في قوله‏:‏ ‏{‏ومَن يفعل ذلك‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 68‏]‏‏.‏ والتقدير‏:‏ إلاّ مَن تاب فلا يضاعف له العذاب ولا يخلد فيه، وهذا تطمين لنفوس فريق من المؤمنين الذين قد كانوا تلبسوا بخصال أهل الشرك ثم تابوا عنها بسبب توبتهم من الشرك، وإلا فليس في دعوتهم مع الله إلهاً آخر بعد العنوان عنهم بأنهم عباد الرحمن ثناءٌ زائد‏.‏

وفي «صحيح مسلم»‏:‏ عن ابن عباس «أن ناساً من أهل الشرك قَتلوا فأكثروا وزَنَوا فأكثروا، فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ إن الذي تقول وتدعو إليه لَحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارةً فنزلت‏:‏ ‏{‏والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 68‏]‏ الآية، والمعنى‏:‏ أنه يعفى عنه من عذاب الذنوب التي تاب منها، ولا يخطر بالبال أنه يعذب عذاباً غير مضاعف وغيرَ مخلَّد فيه، لأن ذلك ليس من مجاري الاستعمال العربي بل الأصل في ارتفاع الشيء المقيَّد أن يقصد منه رفعه بأسره لا رفع قيوده، إلاّ بقرينة‏.‏

والتوبة‏:‏ الإقلاع عن الذنب، والندمُ على ما فرط، والعزم على أن لا يعود إلى الذنب، وإذْ كان فيما سَبق ذكرُ الشرك فالتوبة هنا التلبس بالإيمان، والإيمان بعد الكفر يوجب عدم المؤاخدة كما اقترفه المشرك في مدة شركه كما في الحديث ‏"‏ الإسلام يجُبّ ما قبله ‏"‏، ولذلك فعطف ‏{‏وآمن‏}‏ على ‏{‏من تاب‏}‏ للتنويه بالإيمان، وليبنى عليه قوله‏:‏ ‏{‏وعمل عملاً صالحاً‏}‏ وهو شرائع الإسلام تحريضاً على الصالحات وإيماء إلى أنها لا يعتد بها إلا مع الإيمان كما قال تعالى في سورة البلد ‏(‏17‏)‏ ‏{‏ثم كان من الذين آمنوا‏}‏، وقال في عكسه ‏{‏والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 39‏]‏‏.‏

وقتل النفس الواقع في مدة الشرك يجبُّه إيمان القاتل لأجل مزية الإيمان، والإسلام يجُبّ ما قبله بلا خلاف، وإنما الخلاف الواقع بين السلف في صحة توبة القاتل إنما هو في المؤمن القاتل مؤمناً متعمداً‏.‏ ولما كان مما تشمله هذه الآية لأن سياقها في الثناء على المؤمنين فقد دلت الآية على أن التوبة تمحو آثام كل ذنب من هذه الذنوب المعدودة ومنها قتل النفس بدون حقّ وهو المعروف من عمومات الكتاب والسنة‏.‏ وقد تقدم ذلك مفصلاً في سورة النساء ‏(‏93‏)‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومَن يقتُل مؤمناً متعمّداً‏}‏ الآية‏.‏

وفُرع على الاستثناء الذين تابوا وآمنوا وعملوا عَملاً صالحاً أنهم يبدل الله سيئاتهم حسنات، وهو كلام مسوق لبيان فضل التوبة المذكورة التي هي الإيمان بعد الشرك لأن من تاب‏}‏ مستثنى مِن ‏{‏مَنْ يَفْعَلْ ذلك‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 68‏]‏ فتعيّن أن السيئات المضافة إليهم هي السيئات المعروفة، أي التي تقدم ذكرها، الواقعةُ منهم في زمن شركهم‏.‏

والتبديل‏:‏ جعل شيء بَدَلاً عن شيء آخر، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم بَدَّلْنا مكان السيئة الحسنة‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏95‏)‏، أي يجعل الله لهم حسنات كثيرة عوضاً عن تلك السيئات التي اقترفوها قبل التوبة وهذا التبديل جاء مجملاً وهو تبديل يكون له أثر في الآخرة بأن يعوضهم عن جزاء السيئات ثوابَ حسنات أضدادِ تلك السيئات، وهذا لفضل الإيمان بالنسبة للشرك ولفضل التوبة بالنسبة للآثام الصادرة من المسلمين‏.‏

وبه يظهر موقع اسم الإشارة في قوله‏:‏ فأولئك‏}‏ المفيد التنبيه على أنهم أحرياء بما أخبر عنهم به بعد اسم الإشارة لأجل ما ذكر من الأوصاف قبل اسم الإشارة، أي فأولئك التائبون المُؤمنون العاملون الصالحات في الإيمان يبدّل الله عقاب سيئاتهم التي اقترفوها من الشرك والقتل والزنا بثواب‏.‏ ولم تتعرض الآية لمقدار الثواب وهو موكول إلى فضل الله، ولذلك عُقب هذا بقوله‏:‏ ‏{‏وكان الله غفوراً رحيماً‏}‏ المقتضي أنه عظيم المغفرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ‏(‏71‏)‏‏}‏

إذا وقع الإخبار عن شيء أو توصيفٌ له أو حالةٌ منه بمرادف لما سبق مثله في المعنى دون زيادة تعيَّن أن يكون الخبر الثاني مستعملاً في شيء من لوازم معنى الإخبار يبيّنه المقام، كقول أبي الطَّمحان لقَيْنِي‏:‏

وإني من القوم الذين هُمُ هُمُ *** وقول أبي النجم‏:‏

أنا أبو النجم وشعري شعري *** وقول النبي صلى الله عليه وسلم «من رَآني في المنام فقد رآني» فقوله تعالى هنا‏:‏ ‏{‏ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى الله متاباً‏}‏ وقع الإخبار عن التائب بأنه تائب إذ المتاب مصدر ميمي بمعنى التوبة فيتعيّن أن يُصرف إلى معنى مفيد، فيجوز أن يكون المقصود هو قوله‏:‏ ‏{‏إلى الله‏}‏ فيكون كناية عن عظيم ثوابه‏.‏

ويجوز أن يكون المقصود ما في المضارع من الدلالة على التجدد، أي فإنه يستمر على توبته ولا يرتد على عَقبيه فيكون وعداً من الله تعالى أن يُثبّته على القول الثابت إذا كان قد تاب وأيّد توبته بالعمل الصالح‏.‏

ويجوز أن يكون المقصود ما للمفعول المطلق من معنى التأكيد، أي من تاب وعمل صالحاً فإن توبته هي التوبة الكاملة الخالصة لله على حد قول النبي صلى الله عليه وسلم «إنما الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأةٍ يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» فيكون كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا توبُوا إلى الله توبة نصوحاً‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وذكر المفسرون احتمالات أخرى بعيدة‏.‏

والتوكيد ب ‏(‏إنّ‏)‏ على التقادير كلها لتحقيق مضمون الخبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ‏(‏72‏)‏‏}‏

أتبع خصال المؤمنين الثلاث التي هي قِوام الإيمان بخصال أخرى من خصالهم هي من كمال الإيمان، والتخلق بفضائله، ومجانبة أحوال أهل الشرك‏.‏ وتلك ثلاث خصال أولاها أفصح عنه قوله هنا ‏{‏والذين لا يشهدون الزور‏}‏ الآية‏.‏

وفعل ‏(‏شهد‏)‏ يستعمل بمعنى ‏(‏حضر‏)‏ وهو أصل إطلاقه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن شَهِد منكم الشهر فلْيَصُمْه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏، ويستعمل بمعنى أخبر عن شيء شهده وعلمه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وشَهد شاهد من أهلها‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 26‏]‏‏.‏

والزور‏:‏ الباطل من قول أو فعل وقد غلب على الكذب‏.‏ وقد تقدم في أول السورة فيجوز أن يكون معنى الآية‏:‏ أنهم لا يحضرون محاضر الباطل التي كان يحضرها المشركون وهي مجالس اللهو والغناء والغيبة ونحوها، وكذلك أعياد المشركين وألعابهم، فيكون الزور مفعولاً به ل ‏{‏يشهدون‏}‏‏.‏ وهذا ثناء على المؤمنين بمقاطعة المشركين وتجنبهم‏.‏ فأما شهود مواطن عبادة الأصنام فذلك قد دخل في قوله‏:‏ ‏{‏والذين لا يَدعون مع الله إلهاً آخر‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 68‏]‏‏.‏ وفي معنى هذه الآية قوله في سورة الأنعام ‏(‏68‏)‏ ‏{‏وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسِيَنَّك الشيطانُ فلا تقْعُد بعد الذكرى مع القوم الظالمين‏}‏ ويجوز أن يكون فعل يشهدون‏}‏ بمعنى الإخبار عما علموه ويكون الزور منصوباً على نزع الخافض، أي لا يشهدون بالزور؛ أو مفعولاً مطلقاً لبيان نوع الشهادة، أي لا يشهدون شهادة هي زور لا حَقٌ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا مروا باللغو مروا كراماً‏}‏ مناسب لكلا الجملتين‏.‏

واللغو‏:‏ الكلام العبث والسفه الذي لا خير فيه‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يسمعون فيها لغواً‏}‏ في سورة مريم ‏(‏62‏)‏‏.‏ ومعنى المرور به المرور بأصحابه اللاغين في حال لغوهم، فجعل المرور بنفس اللغو للإشارة إلى أن أصحاب اللغو متلبسون به وقت المرور‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏مروا كراماً‏}‏ أنهم يمرون وهم في حال كرامة، أي غير متلبسين بالمشاركة في اللغو فيه فإن السفهاء إذا مروا بأصحاب اللغو أنِسُوا بهم ووقفوا عليهم وشاركوهم في لغوهم فإذا فعلوا ذلك كانوا في غير حال كرامة‏.‏ ٍ

والكرامة‏:‏ النزاهة ومحاسن الخلال، وضدها اللؤم والسفالة‏.‏ وأصل الكرامة أنها نفاسة الشيء في نوعه قال تعالى‏:‏ ‏{‏أنبتنا فيها من كل زوج كريم‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وقال بعض شعراء حمير في «الحماسة»‏:‏

ولا يَخيم اللقاءَ فارسُهم *** حتى يشقَّ الصفوف مِن كَرمه

أي شجاعته، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وأعد لهم أجراً كريماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وإذا مر أهل المروءَة على أصحاب اللغو تنزهوا عن مشاركتهم وتجاوزوا ناديهم فكانوا في حال كرامة، وهذا ثناء على المؤمنين بترفّعهم على ما كانوا عليه في الجاهلية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وذرِ الذين اتّخذوا دينَهم لعباً ولهواً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 70‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 55‏]‏‏.‏

وإعادة فعل ‏{‏مروا‏}‏ لبناء الحال عليه، وذلك من محاسن الاستعمال، كقول الأحوص‏:‏

فإذَا تزول تزولُ عن متخمّط *** تُخشى بوادره على الأقران

ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 63‏]‏ كما ذكره ابن جنّي في «شرح مشكل أبيات الحماسة»، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏صراط الذين أنعمت عليهم‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 7‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ‏(‏73‏)‏‏}‏

أريد تمييز المؤمنين بمخالفة حالة هي من حالات المشركين وتلك هي حالة سماعهم دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وما تشتمل عليه من آيات القرآن وطلب النظر في دلائل الوحدانية، فلذلك جيء بالصلة منفية لتحصيل الثناء عليهم مع التعريض بتفظيع حال المشركين فإن المشركين إذا ذُكّروا بآيات الله خَرُّوا صُمّاً وعمياناً كحال من لا يحبّ أن يرى شيئاً فيجعل وجهه على الأرض، فاستعير الخرور لشدة الكراهية والتباعد بحيث إن حالهم عند سماع القرآن كحال الذي يخرّ إلى الأرض لئلا يرى ما يكره بحيث لم يبق له شيء من التقوم والنهوض، فتلك حالة هي غاية في نفي إمكان القبول‏.‏

ومنه استعارة القعُود للتخلف عن القتال، وفي عكس ذلك يستعار الإقبال والتلقي والقيام للاهتمام بالأمر والعناية به‏.‏

ويجوز أن يكون الخرور واقعاً منهم أو من بعضهم حقيقة لأنهم يكونون جلوساً في مجتمعاتهم ونواديهم فإذا دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام طأطأوا رؤوسهم وقربوها من الأرض لأن ذلك للقاعد يقوم مقام الفرار، أو ستر الوجه كقول أعرابي يهجو قوماً من طيء، أنشدهُ المبرد‏:‏

إذا ما قيل أيُّهم لأيّ *** تشابهتْ المناكِبُ والرؤوس

وقريب من هذا المعنى قوله تعالى حكايةً في سورة نوح ‏(‏7‏)‏ ‏{‏واستَغْشَوْا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكباراً‏}‏ وتقدم الخرور الحقيقي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يخِرُّون للأذقان سُجّداً‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏107‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فخَرّ عليهم السقف من فوقهم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 26‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وخرّ موسى صَعِقاً‏}‏ في الأعراف ‏(‏143‏)‏‏.‏

وصمّاً وعُمْيَانَاً‏}‏ حالان من ضمير ‏{‏يخروا‏}‏، مراد بهما التشبيه بحذف حرف التشبيه، أي يخِرّون كالصمّ والعُميان في عدم الانتفاع بالمسموع من الآيات والمبصرَ منها مما يُذكَّرون به‏.‏ فالنفي على هذا منصبّ إلى الفعل وإلى قيده، وهو استعمال كثير في الكلام‏.‏ وهذا الوجه أوجه‏.‏

ويجوز أن يكون توجّه النفي إلى القيد كما هو استعمال غالبٌ وهو مختار صاحب «الكشاف»، فالمعنى‏:‏ لم يخرّوا عليها في حالة كالصمم والعمى ولكنهم يخرّون عليها سَامعين مبصرين فيكون الخرور مستعاراً للحرص على العمل بشراشر القلب، كما يقال‏:‏ أكَبّ على كذا، أي صرف جهده فيه، فيكون التعريض بالمشركين في أنهم يصمون ويعمون عن الآيات ومع ذلك يخرّون على تلقّيها تظاهراً منهم بالحرص على ذلك‏.‏ وهذا الوجه ضعيف لأنه إنما يليق لو كان المعرَّض بهم منافقين، وكيف والسورة مكية فأما المشركون فكانوا يُعرِضون عن تلقي الدعوة علَناً، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوْا فيه لعلّكم تغلبون‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وقالوا قلوبنا في أكِنّة مما تَدْعُونا إليه وفي آذانِنا وقر ومِن بينِنا وبينِك حجاب‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ‏(‏74‏)‏‏}‏

هذه صفة ثالثة للمؤمنين بأنهم يُعْنَون بانتشار الإسلام وتكثير أتباعه فيدْعُون الله أن يرزقهم أزواجاً وذرّيّات تقَرُّ بهم أعينُهم، فالأزواج يُطعنهم باتباع الإسلام وشرائعه؛ فقد كان بعض أزواج المسلمين مخالفات أزواجهم في الدين، والذّريات إذا نَشَأوا نشأوا مؤمنين، وقد جُمع ذلك لهم في صفة ‏{‏قرة أعين‏}‏‏.‏ فإنها جامعة للكمال في الدين واستقامة الأحوال في الحياة إذ لا تقَرّ عيون المؤمنين إلاّ بأزواج وأبناء مؤمنين‏.‏ وقد نهى الله المسلمين عن إبقاء النساء الكوافر في العصمة بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تُمسِكوا بعِصَم الكوافر‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏والذي قال لوالدَيه أُف لكما أَتَعِدَانِنِيَ أن أُخرَج‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 17‏]‏ الآية‏.‏ فمن أجل ذلك جعل دعاؤهم هذا من أسباب جزائهم بالجنة وإن كان فيه حظ لنفوسهم بقُرّة أعينهم إذ لا يناكد حظ النفس حظ الدين في أعمالهم، كما في قول عبد الله ابن رواحة وهو خارج إلى غزوة مؤتة، فدعا له المسلمون ولمن معه أن يَردّهم الله سالمين فقال‏:‏

لكنني أسأل الرحمن مغفرة *** وضربةً ذات فَرْغ تَقِذف الزبَدا

أو طعنةً بيديْ حرَّانَ مجهزة *** بحَرْبة تُنفذ الأحشاءَ والكَبِدا

حتى يقولوا إذا مَروا على جَدَثي *** أرشدَك الله من غَاز وقد رَشَدا

فإن في قوله‏:‏ حتى يقولوا، حظاً لنفسه من حسن الذكر وإن كان فيه دعاء له بالرشد وهو حظّ ديني أيضاً، وقوله‏:‏ وقد رَشَدَ، حُسْن ذِكرٍ محض‏.‏ وفي كتاب «الجامع» من «جَامع العتبية» من أحاديث ابن وهب قال مالك‏:‏ رأيت رجلاً يَسأل ربيعة يقول‏:‏ إني لأُحِبّ أن أُرى رائحاً إلى المسجد، فكأنه كره من قوله ولم يعجبه أن يحبّ أحدٌ أن يُرى في شيء من أعمال الخير‏.‏ وقال ابن رشد في «شرحه»‏:‏ وهذا خلاف قول مالك في رسم العُقول من سماع أشهب من كتاب الصلاة‏:‏ إنه لا بأس بذلك إذا كان أولُه لله ‏(‏أي القصد الأول من العمل لله‏)‏‏.‏ وقال ابن رشد في موضع آخر من «شرحه» قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وألقَيْتُ عليك محبةً منّي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 39‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏واجعل لي لسانَ صِدق في الآخرين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 84‏]‏‏.‏ وقال الشاطبي في «الموافقات»‏:‏ «عد مالك ذلك من قبيل الوسوسة، أي أن الشيطان باقي للإنسان إذا سَرّه مرأى الناس له على الخير فيقول لك‏:‏ إنك لَمُراءٍ‏.‏ وليس كذلك وإنما هو أمر يقع في قلبه لا يُملَك» اه‏.‏

وفي «المعيار» عن كتاب «سراج المريدين» لأبي بكر بن العربي قال‏:‏ سألت شيخنا أبا منصور الشيرازي الصوفي عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 160‏]‏ ما بَيّنوا‏؟‏ قال‏:‏ أظهروا أفعالهم للناس بالصلاح والطاعات‏.‏

قال الشاطبي‏:‏ وهذا الموضع محل اختلاف إذا كان القصد المذكور تابعاً لقصد العبادة‏.‏ وقد التزم الغزالي فيها وفي أشباهها أنها خارجة عن الإخلاص لكن بشرط أن يصير العمل أخفّ عليه بسبب هذه الأغراض‏.‏

وأما ابن العربي فذهب إلى خلاف ذلك وكأنَّ مجالَ النظر يلتفت إلى انفكاك القصدين، على أن القول بصحة الانفكاك فيما يصح فيه الانفكاك أَوْجَهُ لما جاء من الأدلة على ذلك، إلى آخره‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من أزواجنا‏}‏ للابتداء، أي اجعل لنا قُرّة أعْيُن تنشأ من أزواجنا وذرّياتنا‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏وذرياتنا‏}‏ جمع ذرية، والجمع مراعى فيه التوزيع على الطوائف من الذين يدعون بذلك، وإلا فقد يكون لأحد الداعين ولد واحد‏.‏ وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وخلف و‏{‏ذريتنا‏}‏ بدون ألف بعد التحتية، ويستفاد معنى الجمع من الإضافة إلى ضمير ‏{‏الذين يقولون‏}‏، أي ذرية كل واحد‏.‏

والأعين‏:‏ هي أعين الداعين، أي قرة أعيُن لنا‏.‏ وإذ قد كان الدعاء صادراً منهم جميعاً اقتضى ذلك أنهم يريدون قرة أعين جميعهم‏.‏

وكما سألوا التوفيق والخير لأزواجهم وذرّياتهم سألوا لأنفسهم بعد أن وفقهم الله إلى الإيمان أن يجعلهم قُدوةً يَقتدي بهم المتقّون‏.‏ وهذا يقتضي أنهم يسألون لأنفسهم بلوغَ الدرجات العظيمة من التقوى فإن القدوة يجب أن يكون بالغاً أقصى غاية العمل الذي يرغب المهتمّون به الكمالَ فيه‏.‏ وهذا يقتضي أيضاً أنهم يسألون أن يكونوا دعاة للدخول في الإسلام وأن يهتدي الناس إليه بواسطتهم‏.‏

والإمام أصله‏:‏ المثال والقالب الذي يصنع على شكله مصنوع من مثله، قال النابغة‏:‏

أبوه قبله وأبو أبيه *** بنَوْا مجدَ الحياة على إمام

وأُطلق الإمام على القدوة تشبيهاً بالمثال والقالَب، وغلب ذلك فصار الإمام بمعنى القدوة‏.‏ وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال إني جاعلُك للناس إماماً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏124‏)‏‏.‏ ووقع الإخبار بإماماً‏}‏ وهو مفرد عن ضمير جماعة المتكلمين لأن المقصود أن يكون كل واحد منهم إماماً يُقتَدى به، فالكلام على التوزيع، أو أريد من إمام معناه الحقيقي وجرى الكلام على التشبيه البليغ‏.‏ وقيل إمام جمع، مثل هِجان وصِيام ومفردهُ‏:‏ إمٌّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 76‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا ‏(‏75‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ‏(‏76‏)‏‏}‏

التصدير باسم الإشارة للتنبيه على أن ما يَرد بعده كانوا أحرياء به لأجل ما ذُكر قبل اسم الإشارة‏.‏ وتلك مجموع إحدى عشرة خصلة وهي‏:‏ التواضع، والحلم، والتهجد، والخوف، وترك الإسراف، وترك الإقتار، والتنزه عن الشرك، وترك الزنا، وترك قتل النفس، والتوبةُ، وترك الكذب، والعفوُ عن المسيء، وقبولُ دعوة الحق، وإظهار الاحتياج إلى الله بالدعاء‏.‏ واسم الإشارة هو الخبر عن قوله ‏{‏وعباد الرحمن‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 63‏]‏ كما تقدم على أرجح الوجهين‏.‏

و ‏{‏الغرفة‏}‏‏:‏ البيت المعتلي يصعد إليه بدرج وهو أعزّ منزلاً من البيت الأرضي‏.‏ والتعريف في الغرفة تعريفُ الجنس فيستوي فيه المفرد والجمع مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنزلنا معهم الكتاب‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏ فالمعنى‏:‏ يُجزون الغُرَف، أي من الجنة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وهم في الغُرفات آمنون‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 37‏]‏‏.‏

والباء للسببية‏.‏ و‏(‏ما‏)‏ مصدرية في قوله‏:‏ ‏{‏بما صبروا‏}‏، أي بصبرهم وهو صبرهم على ما لقوا من المشركين من أذى، وصبرُهم على كبح شهواتهم لأجل إقامة شرائع الإسلام، وصبرهم على مشقة الطاعات‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏وَيُلقون‏}‏ بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف المفتوحة مضارع لقّاه إذا جعله لاقياً‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف ‏{‏ويَلْقَون‏}‏ بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف المفتوحة مضارع لَقِيَ‏.‏ وَاللُّقِيُّ واللِّقَاء‏:‏ استقبال شيء ومصادفته، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا الله واعلموا أنكم مُلاقوه‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏223‏)‏، وفي قوله‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا إذا لَقِيتُم الذين كفروا زحْفاً‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏15‏)‏، وتقدم قريباً قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يفعل ذلك يلقَ أثاماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 68‏]‏‏.‏

وقد استعير اللُّقِيّ لسماع التحية والسلام، أي أنهم يسمعون ذلك في الجنة من غير أن يدخلوا على بأس أو يدخل عليهم بأس بل هم مصادفون تحية إكرام وثناء مثل تحيات العظماء والملوك التي يرتلها الشعراء والمنشدون‏.‏

ويجوز أن يكون إطلاق اللُّقِيّ لسماع ألفاظ التحية والسلام لأجل الإيماء إلى أنهم يسمعون التحية من الملائكة يَلْقَوْنَهم بها، فهو مجاز بالحذف قال تعالى‏:‏ ‏{‏وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون‏}‏ في سورة الأنبياء ‏(‏103‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏حسنت مستقراً ومقاماً‏}‏ هو ضدّ ما قيل في المشركين ‏{‏إنها ساءت مستقراً ومقاماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 66‏]‏‏.‏ والتحية تقدمت في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا حُيِّيتُم بتحية‏}‏ في سورة النساء ‏(‏86‏)‏، وفي قوله‏:‏ ‏{‏وتحيتهم فيها سلام‏}‏ في سورة يونس ‏(‏10‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏تحية من عند الله مباركة طيبة‏}‏ في آخر النور ‏(‏61‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ‏(‏77‏)‏‏}‏

لما استوعبت السورة أغراض التنويه بالرسالة والقرآن، وما تضمنته من توحيد الله، ومن صفة كبرياء المعاندين وتعلّلاتهم، وأحوال المؤمنين، وأقيمت الحجج الدامغة للمعْرضين، ختمت بأمر الله رسولَه عليه الصلاة والسلام أن يخاطب المشركين بكلمة جامعة يُزال بها غرورهم وإعجابهم بأنفسهم وحسبانهم أنهم قد شَفوا غليلهم من الرسول بالإعراض عن دعوته وتورّكهم في مجادلته؛ فبيّن لهم حقارتهم عند الله تعالى وأنه ما بعث إليهم رسوله وخاطبهم بكتابه إلا رحمةً منه بهم لإصلاح حالهم وقطعاً لعذرهم فإذْ كذّبوا فسوف يحلّ بهم العذاب‏.‏

و ‏{‏ما‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏ما يعبؤا بكم‏}‏ نافية‏.‏ وتركيب‏:‏ ما يعبأ به، يدل على التحقير، وضده عَبأ به يفيد الحفَاوة‏.‏

ومعنى ‏{‏ما يعبأ‏}‏‏:‏ ما يبالي وما يهتمّ، وهو مضارع عَبَأ مثل‏:‏ ملأ يَملأ مشتقّ من العِبء بكسر العين وهو الحِمل بكسر الحاء وسكون الميم، أي الشيء الثقيل الذي يحمل على البعير ولذلك يطلق العِبء على العِدْل بكسر فسكون، ثم تشعبت عن هذا إطلاقات كثيرة‏.‏ فأصل ‏{‏ما يعبأ‏}‏‏:‏ ما يحْمِل عِبئاً، تمثيلاً بحالة المُتعَب من الشيء، فصار المقصود‏:‏ ما يهتمّ وما يكترث، وهو كناية عن قلة العناية‏.‏

والباء فيه للسببية، أي بسببكم وهو على حذف مضاف يدل عليه مقام الكلام‏.‏ فالتقدير هنا‏:‏ ما يعبأ بخطابكم‏.‏

والدعاء‏:‏ الدعوة إلى شيء، وهو هنا مضاف إلى مفعوله، والفاعل يدل عليه ‏{‏ربّي‏}‏ أي لولا دعاؤه إياكم، أي لولا أنه يدعوكم‏.‏ وحذف متعلق الدعاء لظهوره من قوله‏:‏ ‏{‏فقد كذبتم‏}‏، أي الداعي وهو محمد صلى الله عليه وسلم فتعين أن الدعاء الدعوة إلى الإسلام‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الله لا يلحقه من ذلك انتفاع ولا اعتزاز بكم‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما خلقت الجنّ والإنس إلا لِيَعْبُدون ما أُريد منهم مِن رزق وما أُريد أن يُطْعِمُون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56، 57‏]‏‏.‏

وضمير الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏دعاؤكم‏}‏ موجّه إلى المشركين بدليل تفريع ‏{‏فقد كَذّبتم‏}‏ عليه وهو تهديد لهم، أي فقد كذبتم الداعي وهو الرسول عليه الصلاة والسلام‏.‏ وهذا التفسير هو الذي يقتضيه المعنى، ويؤيده قول مجاهد والكلبي والفراء‏.‏ وقد فسر بعض المفسرين الدعاء بالعبادة فجعلوا الخطاب موجهاً إلى المسلمين فترتب على ذلك التفسير تكلفات وقد أغنى عن التعرض إليها اعتمادُ المعنى الصحيح فمن شاء فلينظرها بتأمل ليعلم أنها لا داعي إليها‏.‏

وتفريع ‏{‏فقد كذبتم‏}‏ على قوله‏:‏ ‏{‏لولا دعاؤكم‏}‏، والتقدير‏:‏ فقد دعاكم إلى الإسلام فكذبتم الذي دعاكم على لسانه‏.‏

والضمير في ‏{‏يكون‏}‏ عائد إلى التكذيب المأخوذ من ‏{‏كذبتم‏}‏، أي سوف يكون تكذيبهم لزاماً لكم، أي لازماً لكم لا انفكاك لكم منه‏.‏ وهذا تهديد بعواقب التكذيب تهديداً مهولاً بما فيه من الإبهام كما تقول للجاني‏:‏ قد فعلتَ كذا فسوف تتحمل ما فعلت‏.‏

ودخل في هذا الوعيد ما يحلّ بهم في الدنيا من قتل وأسر وهزيمة وما يحل بهم في الآخرة من العذاب‏.‏

واللِّزام‏:‏ مصدر لازم، وقد صيغ على زنة المفاعلة لإفادة اللزوم، أي عدم المفارقة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولولا كلمة سبقت من ربّك لكان لزاماً‏}‏ في سورة طه ‏(‏129‏)‏‏.‏ والضميرُ المستتر في ‏(‏كان‏)‏ عائد إلى عذاب الآخرة في قوله‏:‏ ‏{‏ولعذَاب الآخرة أشدّ وأبقَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 127‏]‏، فالإخبار باللزام من باب الإخبار بالمصدر للمبالغة‏.‏ وقد اجتمع فيه مبالغتان‏:‏ مبالغة في صيغته تفيد قوة لزومه، ومبالغة في الإخبار به تفيد تحقيق ثبوت الوصف‏.‏

وعن ابن مسعود وأُبَيّ بن كعب‏:‏ اللِّزام‏:‏ عذاب يوم بَدر‏.‏ ومرادهما بذلك أنه جزئيّ من جزئيات اللِّزام الموعود لهم‏.‏ ولعلّ ذلك شاع حتى صار اللزام كالعَلم بالغلبة على يوم بدر‏.‏ وفي الصحيح عن ابن مسعود‏:‏ خمس قد مضَين‏:‏ الدخان والقمر، والروم، والبطشة، واللزام، يعني أن اللِّزام غير عذاب الآخرة‏.‏

سورة الشعراء

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏طسم ‏(‏1‏)‏‏}‏

يأتي في تفسيره من التأويلات ما سبق ذِكره في جميع الحروف المقطعة في أوائل السور في معان متماثلة‏.‏ وأظهر تلك المعاني أن المقصود التعريض بإلهاب نفوس المنكرين لمعارضة بعض سور القرآن بالإتيان بمثله في بلاغته وفصاحته وتحدّيهم بذلك والتورك عليهم بعجزهم عن ذلك‏.‏

وعن ابن عباس‏:‏ أن ‏{‏طَسم‏}‏ قَسَم، وهو اسم من أسماء الله تعالى، والمقسم عليه قوله‏:‏ ‏{‏إن نَشَأ نُنزّل عليهم من السماء آية‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 4‏]‏‏.‏ فقال القرظي‏:‏ أقسم الله بطوله وسَنائه ومُلكه‏.‏ وقيل الحروف مقتضبة من أسماء الله تعالى ذي الطَّول، القدوس، الملك‏.‏ وقد علمت في أول سورة البقرة أنها حروف للتهجّي واستقصاء في التحدّي يعجزهم عن معارضة القرآن، وعليه تظهر مناسبة تعقيبه بآية ‏{‏تلك آيات الكتاب المبين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 2‏]‏‏.‏

والجمهور قرأوا‏:‏ ‏{‏طَسمِّ‏}‏ كلمة واحدة، وأدغموا النون من سين في الميم وقرأ حمزة بإظهار النون‏.‏ وقرأ أبو جعفر حروفاً مفككة، قالوا وكذلك هي مرسومة في مصحف ابن مسعود حروفاً مفككة ‏(‏ط س م‏)‏‏.‏

والقول في عدم مَدّ اسم ‏(‏طَا‏)‏ مع أن أصله مهموز الآخر لأنه لما كان قد عرض له سكون السكت حذفت همزته كما تحذف للوقف، كما تقدم في عدم مدّ ‏(‏رَا‏)‏ في ‏{‏الر‏}‏ في سورة يونس ‏(‏1‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

الإشارة إلى الحاضر في الأذهان من آيات القرآن المنزّل من قبلُ، وبيَّنه الإخبارُ عن اسم الإشارة بأنها آيات الكتاب‏.‏

ومعنى الإشارة إلى آيات القرآن قصد التحدّي بأجزائه تفصيلاً كما قُصد التحدي بجميعه إجمالاً‏.‏ والمعنى‏:‏ هذه آيات القرآن تقرأ عليكم وهي بلغتكم وحروف هجائها فأتوا بسورة من مثلها ودونكموها‏.‏ والكاف المتصلة باسم الإشارة للخطاب وهو خطاب لغير معيّن من كل متأهل لهذا التحدي من بلغائهم‏.‏

و ‏{‏المبين‏}‏ الظاهر، وهو من أبان مرادف بَان، أي تلك آيات الكتاب الواضح كونه من عند الله لما فيه من المعاني العظيمة والنظْم المعجز، وإذا كان الكتاب مبيناً كانت آياته المشتمل عليها آيات مُبينة على صدق الرسل بها‏.‏

ويجوز أن يكون ‏{‏المبين‏}‏ من أبان المتعدي، أي الذي يُبيّن ما فيه من معاني الهدى والحق وهذا من استعمال اللفظ في معنييه كالمشترك‏.‏

والمعنى‏:‏ أن ما بلغكم وتلي عليكم هو آيات القرآن المبين، أي البيّن صدقه ودلالته على صدق ما جاء به ما لا يجحده إلا مكابر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

حُوّل الخطاب من توجيهه إلى المعاندين إلى توجيهه للرسول عليه الصلاة والسلام‏.‏ والكلام استئناف بياني جواباً عما يثيره مضمون قوله‏:‏ ‏{‏تلك آيات الكتاب المبين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 2‏]‏ من تساؤل النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه عن استمرار إعراض المشركين عن الإيمان وتصديق القرآن كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلعلّك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 6‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فلا تَذْهَب نفسُك عليهم حسرات‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 8‏]‏‏.‏

و ‏(‏لعلّ‏)‏ إذا جاءت في ترجّي الشيء المخوف سميت إشفاقاً وتوقعاً‏.‏ وأظهر الأقوال أن الترجي من قبيل الخبر، وأنه ليس بإنشاء مثلَ التمني‏.‏

والترجي مستعمل في الطلب، والأظهر أنه حثّ على ترك الأسف من ضلالهم على طريقة تمثيل شأن المتكلم الحاثّ على الإقلاع بحال من يستقرب حصول هلاك المخاطب إذا استمر على ما هو فيه من الغم‏.‏

والباخع‏:‏ القاتل‏.‏ وحقيقة البخع إعماق الذبح‏.‏ يقال‏:‏ بَخَع الشاة، قال الزمخشري‏:‏ إذا بلغ بالسكين البِخَاع بالموحدة المكسورة وهو عِرق مستبطن الفَقار، كذا قال في «الكشاف» هنا وذكره أيضاً في «الفائق»‏.‏ وقد تقدم ما فيه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلعلّك باخع نفسك على آثارهم‏}‏ في سورة الكهف ‏(‏6‏)‏‏.‏ وهو هنا مستعار للموت السريع، والإخبار عنه ب ‏{‏باخع‏}‏ تشبيه بليغ‏.‏ وفي ‏{‏باخع‏}‏ ضمير المخاطب هو الفاعل‏.‏

و ‏{‏أن لا يكونوا‏}‏ في موضع نصب على نزع الخافض بعد ‏(‏أنْ‏)‏ والخافض لام التعليل، والتقدير‏:‏ لأن لا يكونوا مؤمنين، أي لانتفاء إيمانهم في المستقبل، لأنّ ‏(‏أن‏)‏ تخلص المضارع للاستقبال‏.‏ والمعنى‏:‏ أنَّ غمك من عدم إيمانهم فيما مضى يوشك أن يوقعك في الهلاك في المستقبل بتكرر الغم والحزن، كقول إخوة يوسف لأبيهم لما قال ‏{‏يا أسفا على يوسف‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 84‏]‏ فقالوا‏:‏ ‏{‏تالله تفتؤ تَذكرُ يوسف حتى تكونَ حَرَضاً أو تكون من الهالكين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 85‏]‏؛ فوزان هذا المعنى وزان معنى قوله في سورة الكهف ‏(‏6‏)‏ ‏{‏فلعلّك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً‏}‏، فإن ‏(‏إن‏)‏ الشرطية تتعلق بالمستقبل‏.‏ ويجوز أن يجعل ‏{‏أن لا يكونوا‏}‏ في موضع الفاعل ل ‏{‏باخِع‏}‏ والجملة خبر ‏(‏لَعلّ‏)‏‏.‏ وإسناد ‏{‏باخع‏}‏ إلى ‏{‏أن لا يكونون مؤمنين‏}‏ مجاز عقلي لأن عدم إيمانهم جُعل سبباً للبخع‏.‏

وجيء بمضارع الكون للإشارة إلى أنه لا يأسف على عدم إيمانهم ولو استمر ذلك في المستقبل فيكون انتفاؤه فيما مضى أولى بأن لا يؤسف له‏.‏

وحذف متعلق ‏{‏مؤمنين‏}‏؛ إما لأن المراد مؤمنين بما جئتَ به من التوحيد والبعث وتصديق القرآن وتصديق الرسول، وإما لأنه أريد بمؤمنين المعنى اللَّقبي، أي أن لا يكونوا في عداد الفريق المعروف بالمؤمنين وهم أمة الإسلام‏.‏ وضمير ‏{‏أن لا يكونوا‏}‏ عائد إلى معلوم من المقام وهم المشركون الذين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم

وعُدل عن‏:‏ أن لا يؤمنوا، إلى ‏{‏أن لا يكونوا مؤمنين‏}‏ لأن في فعل الكون دلالة على الاستمرار زيادة على ما أفادته صيغة المضارع، فتأكّد استمرار عدم إيمانهم الذي هو مورد الإقلاع عن الحزن له‏.‏ وقد جاء في سورة الكهف ‏(‏6‏)‏ ‏{‏فلعلّك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث‏}‏ بحرف نفي الماضي وهو ‏(‏لم‏)‏ لأن سورة الكهف متأخرة النزول عن سورة الشعراء فعدم إيمانهم قد تقرر حينئذ وبلغ حدّ المأيوس منه‏.‏

وضمير ‏{‏يكونوا‏}‏ عائد إلى معلوم من مقام التحدّي الحاصل بقوله‏:‏ ‏{‏طسم تلك آيات الكتاب المبين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 1، 2‏]‏ للعلم بأن المتحدَّيْن هم الكافرون المكذبون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

استئناف بياني ناشئ عن قوله‏:‏ ‏{‏أن لا يكونوا مؤمنين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 3‏]‏ لأن التسلية على عدم إيمانهم تثير في النفس سؤالاً عن إمهالهم دون عقوبة ليؤمنوا، كما قال موسى ‏{‏ربّنا إنك آتيت فرعون وملأه زينةً وأموالاً في الحياة الدنيا ربّنا ليَضِلّوا عن سَبيلك ربّنا اطمِسْ على أموالهم واشدُدْ على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 88‏]‏، فأجيب بأن الله قادر على ذلك، فهذا الاستئناف اعتراض بين الجملتين المعطوفة إحداهما على الأخرى‏.‏

ومفعول ‏{‏نشأ‏}‏ محذوف يدل عليه جواب الشرط على الطريقة الغالبة في حذف مفعول فعل المشيئة‏.‏ والتقدير‏:‏ إن نشأ تنزيلَ آية ملجئة ننزلها‏.‏

وجيء بحرف ‏{‏إنْ‏}‏ الذي الغالب فيه أن يشعر بعدم الجزم بوقوع الشرط للإشعار بأن ذلك لا يشاؤه الله لحكمة اقتضت أن لا يشاءه‏.‏

ومعنى انتفاء هذه المشيئة أن الحكمة الإلهية اقتضت أن يحصل الإيمان عن نظر واختيار لأن ذلك أجدى لانتشار سمعة الإسلام في مبدإ ظهوره‏.‏ فالمراد بالآية العلامة التي تدل على تهديدهم بالإهلاك تهديداً محسوساً بأن تظهر لهم بوارق تنذر باقتراب عذاب‏.‏ وهذا من معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كان كَبُر عليك إعراضُهم فإن استطعتَ أن تَبْتَغِيَ نَفَقاً في الأرض أو سُلّماً في السماء فتأتيهم بآية‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 35‏]‏، وليس المراد آيات القرآن وذلك أنهم لم يقتنعوا بآيات القرآن‏.‏

وجعل تنزيل الآية من السماء حينئذ أوضح وأشدّ تخويفاً لقلّة العهد بأمثالها ولتوقع كل من تحت السماء أن تصيبه‏.‏ فإن قلت‏:‏ لماذا لم يُرِهِمْ آية كما أُرِي بنو إسرائيل نَتْقَ الجبل فوقهم كأنه ظُلَّةٌ‏؟‏ قلت‏:‏ كان بنو إسرائيل مؤمنين بموسى وما جاء به فلم يكن إظهار الآيات لهم لإلجائهم على الإيمان ولكنه كان لزيادة تثبيتهم كما قال إبراهيم ‏{‏أرني كيف تحيي الموتى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 260‏]‏‏.‏

وفرّع على تنزيل الآية ما هو في معنى الصفة لها وهو جملة ‏{‏فظلت أعناقهم لها خاضعين‏}‏ بفاء التعقيب‏.‏

وعطف ‏{‏فظلت‏}‏ وهو ماض على المضارع قوله‏:‏ ‏{‏ننزل‏}‏ لأن المعطوف عليه جواب شرط، فللمعطوف حكم جواب الشرط فاستوى فيه صيغة المضارع وصيغة الماضي لأن أداة الشرط تخلص الماضي للاستقبال؛ ألا ترى أنه لو قيل‏:‏ إن شئنا نزّلنا أو إن نَشأ نَزَّلنا، لكان سواء إذ التحقيق أنه لا مانع من اختلاف فعلي الشرط والجزاء بالمضارَعيَّة والماضوية، على أن المعطوفات يتّسع فيها ما لا يُتّسع في المعطوف عليها لقاعدة‏:‏ أن يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل، كما في القاعدة الثامنة من الباب الثامن من «مغني اللبيب»، غير أن هذا الاختلاف بين الفعلين لا يخلو من خصوصية في كلام البليغ وخاصة في الكلام المعجز، وهي هنا أمران‏:‏ التفنّن بين الصيغتين، وتقريبُ زَمن مضي المعقب بالفاء من زمن حصول الجزاء بحيث يكون حصول خضوعهم للآية بمنزلة حصول تنزيلها فيتمّ ذلك سريعاً حتى يخيّل لهم من سُرعة حصوله أنه أمر مضى فلذلك قال‏:‏ ‏{‏فظلت‏}‏ ولم يقل‏:‏ فتظل‏.‏

وهذا قريب من استعمال الماضي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتى أمر الله فلا تستعجلوه‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏ وكلاهما للتهديد، ونظيره لقصد التشويق‏:‏ قد قامت الصلاة‏.‏

والخضوع‏:‏ التطامن والتواضع‏.‏ ويستعمل في الانقياد مجازاً لأن الانقياد من أسباب الخضوع‏.‏ وإسناد الخضوع إلى الأعناق مجاز عقلي، وفيه تمثيل لحال المنقادين الخائفين الأذلّة بحال الخاضعين الذين يتّقون أن تصيبهم قاصمة على رؤوسهم فهم يطأطئون رؤوسهم وينحنون اتقاء المصيبة النازلة بهم‏.‏

والأعناق‏:‏ جمع عُنُق بضمتين وقد تسكن النون وهو الرقبة، وهو مؤنث‏.‏ وقيل‏:‏ المضموم النون مؤنث، والساكن النون مذكر‏.‏

ولما كانت الأعناق هي مظهر الخضوع أُسند الخضوع إليها وهو في الحقيقة مما يسند إلى أصحابها ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وخَشَعَت الأصواتُ للرحمن‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 108‏]‏ أي أهل الأصوات بأصواتهم كقول الأعشى‏:‏

‏(‏كذلكَ فافعَلْ ما حييتَ إذَا شتوا‏)‏ *** وأقْدم إذا ما أعينُ الناس تَفْرَق

فأسند الفَرق إلى العيون على سبيل المجاز العقلي لأن الأعين سبب الفرق عند رؤية الأشياء المخيفة‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سحَرُوا أعينَ الناس‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 116‏]‏ وإنما سحَروا الناس سحراً ناشئاً عن رؤية شعوذة السحر بأعينهم، مع ما يزيد به قوله‏:‏ «ظلت أعناقهم لها خاضعين» من الإشارة إلى تمثيل حالهم، ومقتضى الظاهر فظلوا لها خاضعين بأعناقهم‏.‏

وفي إجراء ضمير العقلاء في قوله‏:‏ ‏{‏خاضعين‏}‏ على الأعناق تجريد للمجاز العقلي في إسناد ‏{‏خاضعين إلى أعناقهم‏}‏ لأن مقتضى الجري على وتيرة المجاز أن يقال لها‏:‏ خاضعة، وذلك خضوع من توقع لحاق العذاب النازل‏.‏ وعن مجاهد‏:‏ أن الأعناق هنا جمع عُنُق بضمتين يطلق على سيد القوم ورئيسهم كما يطلق عليه رأس القوم وصدر القوم، أي فظلت سادتهم، يعني الذين أغرَوْهم بالكفر خاضعين، فيكون الكلام تهديداً لزعمائهم الذين زيَّنوا لهم الاستمرار على الكفر، وهو تفسير ضعيف‏.‏ وعن ابن زيد والأخفش‏:‏ الأعناق الجماعات واحدها عُنُق بضمتين جماعة الناس، أي فظلّوا خاضعين جماعات جماعات، وهذا أضعف من سابقه‏.‏

ومن بدع التفاسير وركيكها ما نسبه الثعلبي إلى ابن عباس أنه قال‏:‏ نزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية فتذل لنا أعناقهم بعد صعوبة ويلحقهم هوانٌ بعد عِزّة، وهذا من تحريف كلم القرآن عن مواضعه ونحاشي ابن عباس رضي الله عنه أن يقوله وهو الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يُعلّمه التأويل‏.‏ وهذا من موضوعات دعاة المُسَوِّدة مثل أبي مسلم الخراساني وكم لهم في الموضوعات من اختلاق، والقرآن أجلّ من أن يتعرض لهذه السفاسف‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ننزّل‏}‏ بالتشديد في الزاي وفتح النون الثانية‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بضم النون الثانية وتخفيف الزاي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

عطف على جملة‏:‏ ‏{‏لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 3‏]‏ أي هذه شنشنتهم فلا تأسف لعدم إيمانهم بآيات الكتاب المبين، وما يجيئهم منها من بعدُ فسيعرضون عنه لأنهم عُرفوا بالإعراض‏.‏

والمضارعُ هنا لإفادة التجدد والاستمرار‏.‏ فالذكر هو القرآن لأنه تذكير للناس بالأدلة‏.‏ وقد تقدم وجه تسميته ذكراً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا يأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون‏}‏ في سورة الحجر ‏(‏6‏)‏‏.‏

والمحدَث‏:‏ الجديد، أي من ذكر بعدَ ذكر يُذكّرهم بما أنزل من القرآن من قبله فالمعنى المستفاد من وصفه بالمحدث غير المعنى المستفاد من إسناد صيغة المضارع في قوله‏:‏ ‏{‏ما يأتيهم من ذكر‏}‏‏.‏ فأفاد الأمران أنه ذكر متجدّد مستمر وأن بعضه يعقب بعضاً ويؤيده‏.‏ وقد تقدم في سورة الأنبياء ‏(‏2، 3‏)‏ قوله‏:‏ ‏{‏ما يأتيهم من ذكر من ربّهم محدَث إلاّ استمعوه وهم يلْعَبون لاهية قلوبهم‏}‏

وذكر اسم الرحمن هنا دون وصف الرّب كما في سورة الأنبياء لأن السياق هنا لتسلية النبي على إعراض قومه فكان في وصف مُؤْتي الذكر بالرحمن تشنيع لحال المعرضين وتعريض لغباوتهم أن يُعرضوا عمَّا هو رحمة لهم، فإذا كانوا لا يدركون صلاحهم فلا تَذهبْ نفسُك حسراتتٍ على قوم أضاعوا نفعهم وأنت قد أرشدتهم إليه وذكرتهم، كما قال المثل‏:‏ لا يحزنك دم هراقه أهله وقال النابغة‏:‏

فإن تغلب شقاوتكم عليكم *** فإني في صلاحكم سعَيْتُ

وفي الإتيان بفعل كانوا‏}‏ وخبره دون أن يقال‏:‏ إلا أعرضوا، إفادةُ أن إعراضهم راسخ فيهم وأنه قديم مستمرّ إذ أخبر عنهم قبل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏أن لا يكونوا مؤمنين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 3‏]‏، فانتفاء كون إيمانهم واقعاً هو إعراض منهم عن دعوة الرسول التي طريقها الذكر بالقرآن فإذا أتاهم ذكر بعد الذكر الذي لم يؤمنوا بسببه وجدهم على إعراضهم القديم‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من ذكر‏}‏ مؤكدة لعموم نفي الأحوال‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏ التي في قوله‏:‏ ‏{‏من الرحمن‏}‏ ابتدائية‏.‏

والاستثناء من أحوال عامة، فجملة‏:‏ ‏{‏كانوا عنه معرضين‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏يأتيهم من ذكر‏}‏‏.‏ وتقدم المجرور لرعاية الفاصلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

فاء ‏{‏فقد كذبوا‏}‏ فصيحة، أي فقد تبين أن إعراضهم إعراض تكذيب بعد الإخبار عنهم بأن سنتهم الإعراض عن الذكر الآتي بعضه عقب بعض فإن الإعراض كان لأنهم قد كذبوا بالقرآن‏.‏ وأما الفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فسيأتيهم‏}‏ فَلِتَعْقِيب الإخبار بالوعيد بعد الإخبار بالتكذيب‏.‏

والأنباء‏:‏ جمع نبأ، وهو الخبر عن الحدث العظيم، وتقدم عند قوله تعالى ‏{‏ولقد جاءك من نبأ المرسلين‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏34‏)‏‏.‏

والأنباء‏:‏ ظهور صدقها، وليس المراد من الإتيان هنا البلوغ كالذي في قوله‏:‏ ‏{‏وهل أتاك نَبَؤا الخصم‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 21‏]‏ لأن بلوغ الأنباء قد وقع فلا يحكى بعلامة الاستقبال في قوله‏:‏ ‏{‏فسيأتيهم‏}‏‏.‏

و ‏{‏ما‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ما كانوا به يستهزءون‏}‏ يجوز أن تكون موصولة فيجوز أن يكون ماصْدَقُها القرآن وذلك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تتخذوا آيات الله هُزؤاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 231‏]‏‏.‏ وجيء في صلته بفعل ‏{‏يستهزءون‏}‏ دون ‏(‏يكذِّبون‏)‏ لتحصل فائدة الإخبار عنهم بأنهم كذَّبوا به واستهزأوا به، وتكون الباء في ‏{‏به‏}‏ لتعدية فعل ‏{‏يستهزءون‏}‏، والضمير المجرور عائداً إلى ‏{‏ما‏}‏ الموصولة، وأنباؤه أخباره بالوعيد‏.‏ ويجوز أن يكون ما صدق ‏{‏ما‏}‏ جنسَ ما عُرفوا باستهزائهم به وهو التوعُّد، كانوا يقولون‏:‏ مَتى هذا الوعد‏؟‏ ونحو ذلك‏.‏

وإضافة ‏{‏أنبؤا‏}‏ إلى ‏{‏ما كانوا به يستهزءون‏}‏ على هذا إضافة بيانية، أي ما كانوا به يستهزئون الذي هو أنباء ما سيحلّ بهم‏.‏

وجمع الأنباء على هذا باعتبار أنهم استهزأوا بأشياء كثيرة منها البعث، ومنها العذاب في الدنيا، ومنها نصر المسلمين عليهم ‏{‏ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 48‏]‏، ومنها فتح مكة، ومنها عذاب جهنم، وشجرةُ الزقوم‏.‏ وكان أبو جهل يقول‏:‏ زقّمونا، استهزاء‏.‏

ويجوز كون ‏{‏ما‏}‏ مصدرية، أي أنباء كون استهزائهم، أي حصوله، وضمير ‏{‏به‏}‏ عائداً إلى معلوم من المقام، وهو القرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم

والمراد بأنباء استهزائهم أنباءُ جزَائه وعاقبته وهو ما توعدهم به القرآن في غير ما آية‏.‏

والقول في إقحام فعل ‏{‏كانوا‏}‏ هنا كالقول في إقحامه في قوله آنفاً ‏{‏كانوا عنه معرضين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 5‏]‏ ولكن أوثر الإتيان بالفعل المضارع وهو ‏{‏يستهزءون‏}‏ دون اسم الفاعل كالذي في قوله‏:‏ ‏{‏كانوا عنه معرضين‏}‏ لأن الاستهزاء يتجدد عند تجدد وعيدهم بالعذاب، وأما الإعراض فمتمكّن منهم‏.‏

ومعنى ‏{‏فسيأتيهم أنبؤا ما كانوا به يستهزءون‏}‏ على الوجه الأول أن يكون الإتيان بمعنى التحقق كما في قوله‏:‏ ‏{‏أتى أمر الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏، أي تحقّق، أي سوف تتحقّق أخبار الوعيد الذي توعدهم به القرآن الذي كانوا يستهزئون به‏.‏

وعلى الوجه الثاني سوف تبلغهم أخبار استهزائهم بالقرآن، أي أخبار العقاب على ذلك‏.‏ وأوثر إفراد فعل «يأتيهم» مع أن فاعله جمع تكسير لغير مذكر حقيقي يجوز تأنيثه لأن الإفراد أخف في الكلام لكثرة دورانه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 9‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ‏(‏7‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏8‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏9‏)‏‏}‏

الواو عاطفة على جملة‏:‏ ‏{‏وما يأتيهم من ذِكر من الرحمن مُحدَث إلا كانوا عنه معرضين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 5‏]‏؛ فالهمزة الاستفهامية منه مقدمة على واو العطف لفظاً لأن للاستفهام الصدارةَ، والمقصود منه إقامة الحجة عليهم بأنهم لا تغني فيهم الآيات لأن المكابرة تصرفهم عن التأمل في الآيات، والآياتُ على صحة ما يدعوهم إليه القرآن من التوحيد والإيمان بالبعث قائمة متظاهرة في السماوات والأرض وهم قد عَمُوا عنها فأشركوا بالله، فلا عجب أن يضلوا عن آيات صدق الرسول عليه الصلاة والسلام، وكون القرآن منزلاً من الله فلو كان هؤلاء متطلعين إلى الحق باحثين عنه لكان لهم في الآيات التي ذُكِّروا بها مقنع لهم عن الآيات التي يقترحونها قال تعالى‏:‏ ‏{‏أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 185‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 101‏]‏ أي عن قوم لم يعدوا أنفسهم للإيمان‏.‏

فالمذكور في هذه الآية أنواع النبات دالة على وحدانية الله لأن هذا الصنع الحكيم لا يصدر إلاّ عن واحد لا شريك له‏.‏ وهذا دليل من طريق العقل، ودليل أيضاً على إمكان البعث لأن الإنبات بعد الجَفاف مثيل لإحياء الأموات بعد رفاتهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وآية لهم الأرض الميتة أحيَيْناها‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 33‏]‏‏.‏ وهذا دليل تقريبي للإمكان فكان في آية الإنبات تنبيه على إبطال أصلي عدم إيمانهم وهما‏:‏ أصل الإشراك بالله، وأصل إنكار البعث‏.‏

والاستفهام إنكار على عدم رؤيتهم ذلك لأن دلالة الإنبات على الصانع الواحد دلالة بينة لكل من يراه؛ فلما لم ينتفعوا بتلك الرؤية نزلت رؤيتهم منزلة العدم فأنكر عليهم ذلك‏.‏ والمقصود‏:‏ إنكار عدم الاستدلال به‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏كم أنبتنا‏}‏ بَدل اشتمال من جملة ‏{‏يروا‏}‏ فهي مصبّ الإنكار‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إلى الأرض‏}‏ متعلق بفعل ‏{‏يروا‏}‏، أي ألم ينظروا إلى الأرض وهي بمرأى منهم‏.‏

و ‏{‏كم‏}‏ اسم دال على الكثرة، وهي هنا خبرية منصوبة ب ‏{‏أنبتنا‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ أنبتنا فيها كثيراً من كل زوج كريم‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏ تبعيضية‏.‏ ومورد التكثير الذي أفادته ‏{‏كم‏}‏ هو كثرة الإنبات في أمكنة كثيرة، ومورد الشمول المفاد من ‏{‏كل‏}‏ هو أنواع النبات وأصنافه وفي الأمرين دلالة على دقيق الصنع‏.‏ واستغني بذكر أبعاض كل زوج عن ذكر مميز ‏{‏كم‏}‏ لأنه قد عُلم من التبعيض‏.‏

والزوج‏:‏ النوع، وشاع إطلاق الزوج على النوع في غير الحيوان قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن كل الثمرات جَعَلَ فيها زوجَيْن اثنين‏}‏ على أحد احتمالين تقدما في سورة الرعد ‏(‏3‏)‏، وتقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأخرجنا به أزواجاً من نبات شَتى‏}‏ في طَه ‏(‏53‏)‏‏.‏

والكريم‏:‏ النفيس من نوعه قال تعالى‏:‏ ‏{‏ورزق كريم‏}‏ في الأنفال ‏(‏4‏)‏، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَرُّوا كِرَاماً‏}‏ في سورة الفرقان ‏(‏72‏)‏‏.‏ وهذا من إدْماج الامتنان في ضمن الاستدلال لأن الاستدلال على بديع الصنع يحصل بالنظر في إنبات الكريم وغيرِه‏.‏

ففي الاستدلال بإنبات الكريم من ذلك وفاءٌ بغرض الامتنان مع عدم فوات الاستدلال‏.‏ وأيضاً فنظر الناس في الأنواع الكريمة أنفذُ وأشهرُ لأنه يبتدئ بطلب المنفعة منها والإعجاب بها فإذا تطلبها وقع في الاستدلال فيكون الاقتصار على الاستدلال بها في الآية من قبيل التذكير للمشركين بما هم ممارسون له وراغبون فيه‏.‏

والمشار إليه بذلك‏}‏ هو المذكور من الأرض، وإنبات الله الأزواج فيها، وما في تلك الأزواج من منافع وبهجة‏.‏

والتأكيد بحرف ‏{‏إنَّ‏}‏ لتنزيل المتحدّث عنهم منزلة من ينكر دلالة ذلك الإنبات وصفاته على ثبوت الوحدانية التي هي باعث تكذيبهم الرسول لما دعاهم إلى إثباتها، وإفراد ‏(‏آية‏)‏ لإرادة الجنس، أو لأن في المذكور عدةَ أشياء في كل واحد منها آية فيكون على التوزيع‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وما كان أكثرهم مؤمنين‏}‏ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لآية‏}‏ إخباراً عنهم بأنهم مصرّون على الكفر بعد هذا الدليل الواضح، وضمير ‏{‏أكثرهم‏}‏ عائد إلى معلوم من المقام كما عاد الضمير الذي في قوله‏:‏ ‏{‏ألا يكونوا مؤمنين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 3‏]‏، وهم مشركو أهل مكة وهذا تحدَ لهم كقوله‏:‏ ‏{‏ولن تفعلوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 24‏]‏‏.‏

وأسنِد نفي الإيمان إلى أكثرهم لأن قليلاً منهم يؤمنون حينئذ أو بعد ذلك‏.‏

و ‏{‏كان‏}‏ هنا مقحمة للتأكيد على رأي سيبويه والمحققين‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وإن ربك لهو العزيز الرحيم‏}‏ تذييل لهذا الخبر‏:‏ بوصف الله بالعزة، أي تمام القدرة فتعلمون أنه لو شاء لعجّل لهم العقاب، وبوصف الرحمة إيماء إلى أن في إمهالهم رحمة بهم لعلهم يشكرون، ورحيم بك‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وربُّك الغفور ذو الرحمة لو يُؤاخذهم بما كسبوا لعجَّل لهم العذاب‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 58‏]‏‏.‏ وفي وصف الرحمة إيماء إلى أنه يرحم رسله بتأييده ونصره‏.‏

واعلم أن هذا الاستدلال لما كان عقلياً اقتصر عليه ولم يكرر بغيره من نوع الأدلة العقلية كما كررت الدلائل الحاصلة من العبرة بأحوال الأمم من قوله‏:‏ ‏{‏وإذ نادى ربُّك موسى‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 10‏]‏ إلى آخر قصة أصحاب لَيْكة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 11‏]‏

‏{‏وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏10‏)‏ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

شروع في عدّ آيات على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بذكر عواقب المكذبين برسلهم ليحذر المخاطَبون بالدعوة إلى الإسلام من أن يصيبهم ما أصاب المكذبين‏.‏ وفي ضمن ذلك تبيين لبعض ما نادى به الرسل من البراهين‏.‏

وإذ قد كانت هذه الأدلة من المثلات قصد ذكر كثير اشتهر منها ولم يُقتصر على حادثة واحدة لأن الدلالة غير العقلية يتطرقها احتمال عدم الملازمة بأن يكون ما أصاب قوماً من أولئك على وجه الصدفة والاتفاق فإذا تبين تكرر أمثالها ضعُف احتمال الاتفاقية، لأن قياس التمثيل لا يفيد القطع إلا بانضمام مقومات له من تواتر وتكرر‏.‏

وإنما ابتدئ بذكر قصة موسى ثم قصة إبراهيم على خلاف ترتيب حكاية القصص الغالب في القرآن من جعلها على ترتيب سبقها في الزمان، لعلَّهُ لأن السورة نزلت للرد على المشركين في إلحاحهم على إظهار آيات من خوارق العادات في الكائنات زاعمين أنهم لا يؤمنون إلا إذا جاءتهم آية؛ فضرب لهم المثل بمكابرة فرعون وقومه في آيات موسى إذ قالوا‏:‏ ‏{‏إنّ هذا لساحر مبين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 2‏]‏ وعُطف ‏{‏وإذا نادى ربك موسى‏}‏ عطفَ جملةٍ على جملة‏:‏ ‏{‏أوَ لم يَرَوْا إلى الأرض‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 7‏]‏ بتمامها‏.‏

ويكون ‏{‏إذ‏}‏ اسم زمان منصوباً بفعل محذوف تقديره‏:‏ واذْكر إذ نادى ربّك موسى على طريقة قوله في القصة التي بعدها ‏{‏واتل عليهم نبأ إبراهيم‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 69‏]‏‏.‏ وفي هذا المقدّر تذكير للرسول عليه الصلاة والسلام بما يسلّيه عما يلقاه من قومه‏.‏

ونداء الله موسى الوحيُ إليه بكلام سمعه من غير واسطة ملَك‏.‏

جملة‏:‏ ‏{‏أن ائت القوم الظالمين‏}‏ تفسير لجملة‏:‏ ‏{‏نادى‏}‏، و‏{‏أَنْ‏}‏ تفسيرية‏.‏ والمقصود من سَوق هذه القصة هو الموعظة بعاقبة المكذبين وذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر إلى قوله‏:‏ ‏{‏وإن ربّك لهو العزيز الرحيم‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 63 68‏]‏‏.‏ وأما ما تقدم ذلك من قوله‏:‏ ‏{‏وإذ نادى ربك موسى‏}‏ إلخ فهو تفصيل لأسباب الموعظة بذكر دعوة موسى إلى ما أُمر بإبلاغه وإعراضضِ فرعون وقومِه وما عقبَ ذلك إلى الخاتمة‏.‏

واستحضار قوم فرعون بوصفهم بالقوم الظالمين إيماء إلى علة الإرسال‏.‏ وفي هذا الإجمال توجيه نفس موسى لترقب تعيين هؤلاء القوم بما يبينه، وإثارةٌ لغضب موسى عليهم حتى ينضمّ داعي غضبه عليهم إلى داعي امتثال أمر الله الباعِثِه إليهم، وذلك أوقع لكلامه في نفوسهم‏.‏ وفيه إيماء إلى أنهم اشتهروا بالظلم‏.‏

ثم عقب ذلك بذكر وصفهم الذاتي بطريقة البياننِ من القوم الظالمين وهو قوله‏:‏ ‏{‏قوم فرعون‏}‏، وفي تكرير كلمة ‏{‏قوم‏}‏ موقع من التأكيد فلم يقل‏:‏ ائت قوم فرعون الظالمين، كقول جرير‏:‏

يا تيم تيمَ عدي لا أبا لكم *** لا يُلْفينَّكُمُ في سَوْأة عُمَرُ

والظلم يعم أنواعه، فمنها ظلمهم أنفسهم بعبادة ما لا يستحق العبادة، ومنها ظلمهم الناسَ حقوقهم إذ استعبدوا بني إسرائيل واضطهدوهم، وتقدم استعماله في المعنيين مراراً في ضد العدل

‏{‏ومن أظلم مِمّن مَّنَع مساجدَ اللَّه‏}‏ في البقرة ‏(‏114‏)‏، وبمعنى الشرك في قوله‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا ولم يلبِسوا إيمانهم بظلم‏}‏ في الأنعام ‏(‏82‏)‏‏.‏

واعلم أنه قد عدل هنا عن ذكر ما ابتدئ به نداء موسى مما هو في سورة طه ‏(‏12 23‏)‏ بقوله‏:‏ ‏{‏إني أنا ربّك فاخلَع نعليك‏}‏ إلى قوله‏:‏ لنُريَكَ من آياتنا الكبرى لأن المقام هنا يقتضي الاقتصار على ما هو شرح دعوة قوم فرعون وإعراضهم للاتّعَاظ بعاقبتهم‏.‏ وأما مقام ما في سورة طه فلبيان كرامة موسى عند ربّه ورسالته معاً فكان مقام إطناب مع ما في ذلك من اختلاف الأسلوب في حكاية القصة الواحدة كما تقدم في المقدمة السابعة من مقدمات هذا التفسير‏.‏

والإتيان المأمور به هو ذهابه لتبليغ الرسالة إليهم‏.‏ وهذا إيجاز يبيّنه قوله‏:‏ ‏{‏فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 16‏]‏ إلى آخره‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ألا يتقون‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنه لمّا أمره بالإتيان إليهم لدعوتهم ووصَفَهَم بالظالمين كان الكلام مثيراً لسؤاللٍ في نفس موسى عن مَدى ظلمهم فجيء بما يدل على توغّلهم في الظلم ودوامهم عليه تقوية للباعث لِموسى على بلوغ الغاية في الدعوة وتهيئة لتلقِّيه تكذيبَهم بدون مفاجأة، فيكون ‏{‏ألا‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏ألا يتقون‏}‏ مركباً من حرفين همزة الاستفهام و‏(‏لا‏)‏ النافية‏.‏ والاستفهام لإنكار انتفاء تقواهم، وتعجيب موسى من ذلك، فإن موسى كان مطّلعاً على أحوالهم إذ كان قد نشأ فيهم وقد عَلم مظالمهم وأعظمها الإشراك وقتلُ أنبياء بني إسرائيل‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

ويجوز أن يكون ‏{‏ألا‏}‏ كلمةً واحدة هي أداة العرض والتحضيض فتكون جملة‏:‏ ‏{‏ألا يتقون‏}‏ بياناً لجملة ‏{‏ائت‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ قل لهم‏:‏ ألا تتقون‏.‏ فحكى مقالته بمعناها لا بلفظها‏.‏ وذلك واسع في حكاية القول كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما قلتُ لهم إلاَّ ما أمرتني به أن اعبُدُوا الله ربّي وربّكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 117‏]‏ فإن جملة‏:‏ ‏{‏أن اعبُدوا الله‏}‏ مفسرة لجملة ‏{‏أمرتني‏}‏‏.‏ وإنما أمره الله أن يعبدوا الله ربّ موسى وربهم، فحكى ما أمره الله به بالمعنى‏.‏ وهذا العرض نظير قوله في سورة النازعات ‏(‏18‏)‏ ‏{‏فقل هل لك إلى أن تزكّى‏}‏

والاتّقاء‏:‏ الخوف والحذر، وحذف متعلق فعل يتقون‏}‏ لظهور أن المراد‏:‏ ألا يتقون عواقب ظلمهم‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين عاهدتَ منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏56‏)‏‏.‏

ويَعلم موسى من إجراء وصف الظلم وعدم التقوى على قوم فرعون في معرض أمره بالذهاب إليهم أن من أول ما يبدأ به دعوتَهم أن يدعوهم إلى ترك الظلم وإلى التقوى‏.‏

وذكر موسى تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏51‏)‏‏.‏ وتقدمت ترجمة فرعون عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلى فرعون وملائه‏}‏ في الأعراف ‏(‏103‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 14‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ‏(‏12‏)‏ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ‏(‏13‏)‏ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ‏(‏14‏)‏‏}‏

افتتاح مراجعته بنداء الله بوصف الربّ مضافاً إليه تحنين واستسلام‏.‏ وإنما خاف أن يكذبوه لعلمه بأن مثل هذه الرسالة لا يتلقاها المرسَل إليهم إلا بالتكذيب، وجَعَل نفسه خائفاً من التكذيب لأنه لما خلعت عليه الرسالة عن الله وَقَر في صدره الحرص على نجاح رسالته فكان تكذيبه فيها مخوفاً منه‏.‏

و ‏{‏يضيق صدري‏}‏ قرأه الجمهور بالرفع فهو عطف على ‏{‏أخاف‏}‏ أو تكون الواو للحال فتكون حالاً مقدرة، أي والحال يضيق ساعتئذ صدري من عدم اهتدائهم‏.‏

والضَيق‏:‏ ضد السعة، وهو هنا مستعار للغضب والكمد لأن من يعتريه ذلك يحصل له انفعال وينشأ عنه انضغاط الأعصاب في الصدر والقلب من تأثير الإدراك الخاص على جمع الأعصاب الكائن بالدماغ الذي هو المُدرك فيحس بشبه امتلاء في الصدر‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يجعلُ صدرَه ضيّقاً حرجاً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وضائق به صدرُك‏}‏ في سورة هود ‏(‏12‏)‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه يأسف ويكمد لتكذيبهم إياه ويجيش في نفسه روم إقناعهم بصدقه، وتلك الخواطر إذا خطرت في العقل نشأ منها إعداد البراهين، وفي ذلك الإعداد تكلّف وتعب للفكر فإذا أبانها أحس بارتياح وبشبه السعة في الصدر فسمى ذلك شرحاً للصدر، ولذلك سأله موسى في الآية الأخرى قال‏:‏ ‏{‏ربّ اشرح لي صدري‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 25‏]‏‏.‏

والانطلاق حقيقته مطاوع أطلقه إذا أرسله ولم يحبسه فهو حقيقة في الذهاب‏.‏ واستعير هنا لفصاحة اللسان وبيانه في الكلام، أي ينحبس لساني فلا يبين عند إرادة المحاجة والاستدلاللِ وعطفه على ‏{‏يضيق صدري ينبئ بأنه أراد بضيق الصدر تكاثر خواطر الاستدلال، في نفسه على الذين كذبوه ليقنعهم بصدقه حتى يحسّ كأن صدره قد امتلأ، والشأن أن ذلك ينقُص شيئاً بعد شيء بمقدار ما يفصح عنه صاحبه من إبلاغه إلى السامعين، فإذا كانت في لسانه حبسة وعِيٌّ بقيت الخواطر متلجلجة في صدره‏.‏ والمعنى‏:‏ ويضيق صدري حين يكذبونني ولا ينطلق لساني‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ يضيقُ‏.‏‏.‏‏.‏ ولا ينطلقُ‏}‏ مرفوعين عطفاً على ‏{‏أخاف‏}‏ ولذلك حقّقه بحرف التأكيد لأنه أيقن بحصول ذلك لأنه جبلي عند تلقي التكذيب، ولأن أمانة الرسالة والحرص على تنفيذ مراد الله يحدث ذلك في نفسه لا محالة، وإذ قد كان انحباس لسانه يقيناً عنده لأنه كان كذلك من أجل ذلك التيقن كان فعلا ‏{‏يضيق‏.‏‏.‏‏.‏ ولا ينطلق‏}‏ معطوفين على ما هو محقق عنده وهو حصول الخوف من التكذيب، ولم يكونا معطوفين على ‏{‏يكذبون‏}‏ المخوف منه المتوقع على أن كونه محقق الحصول يجعله أحرى من المتوقع‏.‏

وقرأ يعقوب ‏{‏ويضيقَ‏.‏‏.‏‏.‏ ولا ينطلقَ‏}‏ بنصب الفعلين عطفاً على ‏{‏يكذبون‏}‏، أي يتوقع أن يضيقَ صدره ولا ينطلقَ لسانُه‏.‏ قيل كانت بموسى حُبسة في لسانه إذا تكلم‏.‏ وقد تقدم في سورة طَه وسيجيء في سورة الزخرف‏.‏

وليس القصد من هذا الكلام التنصل من الاضطلاع بهذا التكليف العظيم ولكن القصد تمهيد ما فرعه عليه من طلب تشريك أخيه هارون معه لأنه أقدر منه على الاستدلال والخطابة كما قال في الآية الأخرى ‏{‏وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 34‏]‏‏.‏ فقوله هنا ‏{‏فأرسل إلى هارون‏}‏ مُجمل يبيّنه ما في الآية الأخرى فيعلم أن في الكلام هنا إيجازاً‏.‏ وأنه ليس المراد‏:‏ فأرسل إلى هارون عِوَضاً عني‏.‏

وإنما سأل الله الإرسالَ إلى هارون ولم يسأله أن يكلّم هارون كما كلّمه هو لأن هارون كان بعيداً عن مكان المناجاة‏.‏ والمعنى‏:‏ فأرسل مَلَكاً بالوحي إلى هارون أن يكون معي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولهم عليَّ ذنب فأخاف أن يقتلون‏}‏ تعريض بسؤال النصر والتأييد وأن يكفيه شرّ عدوّه حتى يؤدي ما عهد الله إليه على أكمل وجه‏.‏ وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر‏:‏ «اللهم إني أسألك نصرك ووعدَك اللهم إن شئت لم تعبد في الأرض»

والذنب‏:‏ الجُرم ومخالفة الواجب في قوانينهم‏.‏ وأطلق الذنب على المؤاخذة فإن الذي لهم عليه هو حقّ المطالبة بدم القتيل الذي وكزه موسى فقضَى عليه، وتوعده القبط إن ظفروا به ليقتلوه فخرج من مصر خائفاً، وكان ذلك سببَ توجهه إلى بلاد مَدْيَن‏.‏ وسمّاه ذَنْباً بحسب ما في شرع القبط، فإنه لم يكن يومئذ شرع إلهي في أحكام قتل النفس‏.‏ ويصح أن يكون سمّاه ذنباً لأن قتل أحد في غير قصاص ولا دفاع عن نفس المُدافع يعتبر جرماً في قوانين جماعات البشر من عهد قتل أحد ابني آدم أخاه، وقد قال في سورة القصص ‏(‏15، 16‏)‏ ‏{‏قال هذا من عمل الشيطان إنه عَدوّ مُضِلّ مبين قال ربّ إنّي ظلمتُ نفسي فاغفر لي‏}‏ وأيًّا مَّا كان فهو جعله ذنباً لهم عليه‏.‏

وقوله‏:‏ فأخاف أن يقتلون‏}‏ ليس هَلَعاً وفرقاً من الموت فإنه لما أصبح في مقام الرسالة ما كان بالذي يبالي أن يموت في سبيل الله؛ ولكنه خشي العائق من إتمام ما عُهد إليه مما فيه له ثواب جزيل ودرجة عليا‏.‏

وحذفت ياء المتكلم من ‏{‏يقتلون‏}‏ للرعاية على الفاصلة كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإيايَ فارهبون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏40‏)‏‏.‏

وذكر هارون تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏248‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 17‏]‏

‏{‏قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ‏(‏15‏)‏ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏16‏)‏ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏كلاَّ‏}‏ حرف إبطال‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلا سنكتب ما يقول‏}‏ في سورة ‏[‏مريم‏:‏ 79‏]‏‏.‏ والإبطال لقوله‏:‏ ‏{‏فأخاف أن يقتلون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 14‏]‏، أي لا يقتلونك‏.‏ وفي هذا الإبطال استجابة لما تضمنه التعريض بالدعاء حين قال‏:‏ ‏{‏وَلَهم عليَّ ذنب فأخاف أن يقتلون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فاذهبا بآياتنا‏}‏ تفريع على مُفاد كلمة ‏{‏كلاّ‏}‏‏.‏ والأمر لموسى أن يذهبَ هو وهارُون يقتضي أن موسى مأمور بإبلاغ هارون ذلك فكان موسَى رسولاً إلى هارون بالنبوءة‏.‏ ولذلك جاء في التوراة أن موسى أبلغَ أخاه هارون ذلك عندما تلقّاه في حوريب إذ أوحى الله إلى هارون أن يتلقاه، والباء للمصاحبة، أي مصاحبَيْن لآياتنا، وهو وعد بالتأييد بمعجزات تظهر عند الحاجة‏.‏ ومن الآيات‏:‏ العصا التي انقلبت حية عند المناجاة، وكذلك بياض يده كما في آية سورة ‏[‏طه‏:‏ 17‏]‏ ‏{‏وما تلك بيمينك يا موسى‏}‏ الآيات‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إنا معكم مستمعون‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن أمرهما بالذهاب إلى فرعون يثير في النفس أن يتعامى فرعون عن الآيات ولا يَرعوي عند رؤيتها عن إلحاق أذى بهما فأجيب بأن الله معهما ومستمع لكلامهما وما يجيب فرعونُ به‏.‏ وهذا كناية عن عدم إهمال تأييدهما وكفِّ فرعون عن أذاهما‏.‏ فضمير ‏{‏معكم‏}‏ عائد إلى موسى وهارون وقوم فرعون‏.‏ والمعية معية علم كالتي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلاّ هو معهم أين ما كانوا‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 7‏]‏‏.‏

و ‏{‏مستمعون‏}‏ أشدّ مبالغة من ‏(‏سامعون‏)‏ لأن أصل الاستماع أنه تكلف السماع والتكلف كناية عن الاعتناء، فأريد هنا علم خاص بما يجري بينها وبين فرعون وملئه وهو العلم الذي توافقه العناية واللطف‏.‏

والجمع بين قوله‏:‏ ‏{‏بآياتنا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إنا معكم مستمعون‏}‏ تأكيد للطمأنة ورباطة لجأشهما‏.‏

والرسول‏:‏ فَعُول بمعنى مُفعَل، أي مُرسل‏.‏ والأصل فيه مطابقة موصوفه، بخلاف فعول بمعنى فاعل فحقه عدم المطابقة سماعاً، وفعول بمعنى اسم المفعول قليل في كلامهم ومنه‏:‏ بقرة ذَلول، وقولهم‏:‏ صَبُوح، لما يشرب في الصباح، وغبوق، لما يشرب في العشي، والنَّشوق، لما ينشق من دواء ونحوه‏.‏ ولكن رسول يجوز فيه أن يُجرى مجرى المصدر فلا يطابق ما يجري عليه في تأنيث وما عدا الإفراد، وورد في كلامهم بالوجهين تارة مُلازماً الإفراد والتذكير كما في هذه الآية، وورد مطابقاً كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقولا إنّا رسولا ربك‏}‏ في سورة ‏[‏طَه‏:‏ 47‏]‏، فذهب الجوهري إلى أنه مشترك بين كونه اسماً بمعنى مَفعول وبين كونه اسم مصدر ولم يجعله مصدراً إذ لا يعرف فعول مصدراً لغير الثلاثي، واحتج بقول الأشْعَر الجعفي‏:‏

ألاَ أَبلِغ بني عَمرو رسولاً *** بأني عن فُتاحتِكُم غَنِيُّ

‏[‏الفتاحة‏:‏ الحكم‏]‏‏.‏ وتبعه الزمخشري في هذه الآية إذ قال‏:‏ الرسول يكون بمعنى المرسَل وبمعنى الرسالة فجُعل ثَمَّ ‏(‏أي في قوله‏:‏ ‏{‏إنا رسولا ربّك‏}‏ في سورة ‏[‏طه‏:‏ 47‏]‏‏)‏ بمعنى المرْسَل، وجُعل هنا بمعنى الرسالة‏.‏

وقد قال أبو ذؤيب الهذلي‏:‏

ألِكْنِي إليها وخير الرسُو *** ل أعلَمُهُم بنواحي الخبر

فهل من ريبة في أن ضمير الرسول في البيت مراد به المرسلون‏.‏ وتصريح النحاة بأن فَعولاً الذي بمعنى المفعول يجوز إجراؤه على حالة المتّصِففِ به من التذكير والتأنيث فيجوز أن تقول‏:‏ ناقَة رَكُوبة ورَكُوب، يقتضي أن التثنية والجمعَ فيه مثل التأنيث‏.‏ وقد تقدمت الإشارة إلى هذا في سورة طه وأحلنا تحقيقه على ما هنا‏.‏

ومبادأة خطابهما فرعونَ بأن وصفا الله بصفة ربّ العالمين مجابهة لفرعون بأنه مربوب وليس بربّ، وإثبات ربوبية الله تعالى للعالمين‏.‏ والنفي يقتضي وحدانية الله تعالى لأن العالمين شامل جميعَ الكائِنات فيشمل معبودات القبط كالشمس وغيرها، فهذه كلمة جامعة لما يجب اعتقاده يومئذ‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏أن أرسل معنا بني إسرائيل‏}‏ تفسيرية لما تضمنه ‏{‏رسُول‏}‏ من الرسالة التي هي في معنى القول، أي هذا قول ربّ العالمين لك‏.‏ و‏{‏أَرْسِل معنا‏}‏ أَطلِقْ ولا تحبسهم، فالإرسال هنا ليس بمعنى التوجيه‏.‏ وهذا الكلام يتضمن أن موسى أُمر بإخراج بني إسرائيل من بلاد الفراعنة لقصد تحريرهم من استعباد المصريين كما سيأتي عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن عبَّدْتَ بني إسرائيل‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 22‏]‏، وقد تقدم في سورة البقرة بيان أسباب سكنى بني إسرائيل بأرض مصر ومواطنهم بها وعملهم لفرعون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

‏{‏قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ‏(‏18‏)‏ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

طوي من الكلام ذهاب موسى وهارون إلى فرعون واستئذانهما عليه وإبلاغهما ما أمرهما الله أن يقولا لفرعون إيجازاً للكلام‏.‏ ووجَّه فرعون خطابه إلى موسى وحده لأنه علم من تفصيل كلام موسى وهارون أن موسى هو الرسول بالأصالة وأن هارون كان عوناً له على التبليغ فلم يشتغل بالكلام مع هارون‏.‏ وأعرض فرعون عن الاعتناء بإبطال دعوة موسى فعدل إلى تذكيره بنعمة الفراعنة أسلافه على موسى وتخويفه من جنايته حسباناً بأن ذلك يقتلع الدعوة من جذمها ويكف موسى عنها، وقصدُه من هذا الخطاب إفحام موسى كي يتلعثم من خشيةِ فرعون حيث أوجد له سبباً يتذرع به إلى قتله ويكون معذوراً فيه حيث كفر نعمة الولاية بالتربية، واقترف جرم الجناية على الأنفس‏.‏

والاستفهام تقريري، وجعل التقرير على نفي التربية مع أن المقصود الإقرار بوقوع التربية مجاراة لحال موسى في نظر فرعون إذ رأى في هذا الكلام جرأة عليه لا تناسب حال مَن هو ممنون لأُسرته بالتربية لأنها تقتضي المحبة والبر، فكأنه يرخي له العنان بتلقين أن يجحد أنه مربًّى فيهم حتى إذا أقر ولم ينكر كان الإقرار سالماً من التعلل بخوف أو ضغط، فهذا وجه تسليط الاستفهام التقريري على النفي في حينَ أن المقرر به ثابت‏.‏ وهذا كما تقول للرجل الذي طال عهدك برؤيته‏:‏ ألستَ فلاناً، ومثله كثير‏.‏ ومنه قول الحجاج في خطبته يوم دَيْر الجماجم يهدد الخوارج «ألستُم أصحابِي بالأهواز»‏.‏

والتقرير مستعمل في لازمه وهو أن يقابل المقرَّر عليه بالبر والطاعة لا بالجفاء، ويجوز أن يجعل الاستفهام إنكارياً عليه لأن لسان حال مُوسى في نظر فرعون حال من يجحد أنه مربًّى فيهم ومن يظن نِسيانهم لفعلته فأنكر فرعون عليه ذلك، وكلا الوجهين لا يخلو من تنزيل موسى منزلة من يجحد ذلك‏.‏

والتربية‏:‏ كفالة الصبي وتدبير شؤونه‏.‏ ومعنى ‏{‏فينا‏}‏ في عائلتنا، أي عائلة ملك مصر‏.‏ والوليد‏:‏ الطفل من وقت ولادته وما يقاربها فإذا نمى لم يُسم وليداً وسمي طفلاً، ويعني بذلك التقاطه من نهر النيل‏.‏ وذلك أن موسى ربّي عند ‏(‏رعمسيس الثاني‏)‏ من ملوك العائلة التاسعة عشرة من عائلات فراعنة مصر حسب ترتيب المحققين من المؤرخين‏.‏ وخرج موسى من مصر بعد أن قتل القبطّي وعمرُه أربعون سنة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولما بلغ أشُدَّه واستوى أتيناه حكماً إلى قوله‏:‏ ‏{‏ودخل المدينة‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 14، 15‏]‏ الآية وبُعث وعمرُه ثمانون سنة حسبما في التوراة‏.‏ وكان فرعون الذي بعث إليه موسى هو ‏(‏منفتاح الثاني ابن رعمسيس الثاني‏)‏ وهو الذي خلفه في الملك بعد وفاته أواسط القرن الخامس عشر قبل المسيح، فلا جرم كان موسى مربّى والده، فلذلك قال له‏:‏ ألم نُرَبِّك فينا وليداً، ولعله رُبِّيَ مع فرعون هذا كالأخ‏.‏

والسنين التي لبثها موسى فيهم هي نحو أربعين سنة‏.‏

والفَعْلة‏:‏ المرة الواحدة من الفِعل، وأراد بها الحاصل بالمصدر كما اقتضته إضافتها إلى ضمير المخاطب، وأراد بالفعلة قتلَه القبطي، قيل هو خَبَّاز فرعون‏.‏ وعبر عنها بالموصول لعلم موسى بها، وفي ذلك تهويل للفعلة يكنى به عن تذكيره بما يوجب توبيخه‏.‏

وفي العدول عن ذكر فَعلة معيَّنة إلى ذكرها مبهمة مضافةً إلى ضميره ثم وصفها بما لا يزيد على معنى الموصوف تهويلٌ مرادٌ به التفظيع وأنها مشتهرة معلومة مع تحقيق إلصاق تبعتها به حتى لا يجد تنصلاً منها‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وأنت من الكافرين‏}‏ حال من ضمير ‏{‏فعلت‏}‏‏.‏ والمراد به كفر نعمة فرعون من حيث اعتدى على أحد خاصّته وموالي آله، وكان ذلك انتصاراً لرجل من بني إسرائيل الذين يعُدُّونهم عبيدَ فرعون وعبيدَ قومه، فجَعل فرعونُ انتصارَ موسى لرجل من عشيرته كفراناً لنعمة فرعون لأنه يرى واجب موسى أن يعُدّ نفسه من قوم فرعون فلا ينتصر لإسرائيلي، وفي هذا إعمال أحكام التبني وإهمال أحكام النسب وهو قلبُ حقائق وفسادُ وضع‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما جَعل أدعياءَكم أبناءَكم ذلكم قولُكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وليس المراد الكفر بديانة فرعون لأن موسى لم يكن يوم قتل القبطي متظاهراً بأنه على خلاف دينهم وإن كان في باطنه كذلك لأن الأنبياء معصومون من الكفر قبل النبوءة وبعدها‏.‏

ويجوز أن تكون جملة‏:‏ ‏{‏وأنت من الكافرين‏}‏ عطفاً على الجُمل التي قبلها التي هي توبيخ ولوم، فوبخه على تقدم رعيه تربيتَهم إياه فيما مضى، ثم وبّخه على كونه كافراً بدينهم في الحال، لأن قوله‏:‏ ‏{‏من الكافرين‏}‏ حقيقة في الحال إذ هو اسم فاعل واسم الفاعل حقيقة في الحال‏.‏

ويجوز أن يكونَ المعنى‏:‏ وأنت حينئذ من الكافرين بديننا، استناداً منه إلى ما بدا من قرائنَ دلّته على استخفاف موسى بدينهم فيما مضى لأن دينهم يقتضي الإخلاص لفرعون وإهانةَ من يهينهم فرعون‏.‏ ولعل هذا هو السبب في عزم فرعون على أن يقتصّ من موسى للقبطي لأن الاعتداء عليه كان مصحوباً باستخفاف بفرعون وقومه‏.‏

ويفيد الكلام بحذافره تعجباً من انتصاب موسى منصب المرشد مع ما اقترفه من النقائص في نظر فرعون المنافية لدعوى كونه رسولاً من الربّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 22‏]‏

‏{‏قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ‏(‏20‏)‏ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏21‏)‏ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

كانت رباطة جأش موسى وتوكّله على ربّه باعثةً له على الاعتراف بالفعلة وذكر ما نشأ عنها من خيرٍ له، ليدل على أنه حَمِد أثرها وإن كان قد اقترفها غير مُقَدِّر ما جرّته إليه من خير؛ فابتدأ بالإقرار بفعلته ليعلم فرعون أنه لم يجد لكلامه مدخل تأثير في نفس مُوسى‏.‏ وأخر موسى الجواب عن قول فرعون ‏{‏ألم نربّك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 18‏]‏ لأنه علم أن القصد منه الإقصارُ من مواجهته بأن ربّاً أعلى من فرعون أرسل موسى إليه‏.‏ وابتدأ بالجواب عن الأهم من كلام فرعون وهو ‏{‏وفعلتَ فعلتك‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 19‏]‏ لأنه علم أنه أدخل في قصد الإفحام، وليظهر لفرعون أنه لا يَوْجَل من أن يطالبوه بذَحل ذلك القتيل ثقة بأن الله ينجيه من عدوانهم‏.‏

وكلمة ‏{‏إذاً‏}‏ هنا حرف جواب وجزاء، فنونُه الساكنة ليست تنويناً بل حرفاً أصلياً للكلمة، وقدم ‏{‏فعلتها‏}‏ على ‏(‏إذن‏)‏ مبادرةً بالإقرار ليَكون كناية عن عدم خشيته من هذا الإقرار‏.‏ ومعنى المجازاة هنا ما بيّنه في «الكشاف»‏:‏ أن قول فرعون ‏{‏فعلتَ فعلتك‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 19‏]‏ يتضمن معنى جازيتَ نعمتنا بما فعلتَ؛ فقال له موسى‏:‏ نعم فعلتها مُجازيا لك، تسليماً لقوله، لأن نعمته كانت جديرة بأن تجازى بمثل ذلك الجزاء‏.‏ وهذا أظهر ما قيل في تفسير هذه الآية‏.‏ وقال القزويني في «حاشية الكشاف» قال بعض المحققين‏:‏ ‏{‏إذاً‏}‏ ظرف مقطوع عن الإضافة مُؤْثَراً فيه الفتح على الكسر لخفته وكثرةِ الدوران، ولعله يعني ببعض المحققين رضي الدِّين الاسترابادي في «شرح الكافية الحاجبية» فإنه قال في باب الظروف‏:‏ والحق أن ‏(‏إذْ‏)‏ إذا حذف المضاف إليه منه وأبدل منه التنوين في غير نحو يومئذ، جاز فتحه أيضاً، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فعلتها إذاً وأنا من الضالين‏}‏ أي فعلتها إذْ ربَّيتني، إذ لا معنى للجزاء ههنا اه‏.‏ فيكون متعلقاً ب ‏{‏فعلتُها‏}‏ مقطوعاً عن الإضافة لفظاً لدلالة العامل على المضاف إليه‏.‏ والمعنى‏:‏ فعلتُها زمناً فعلتُها، فتذكيري بها بعد زمن طويل لا جدوى له‏.‏ وهذا الوجه في ‏{‏إذاً‏}‏ في الآية هو مختار ابن عطية والرضي في «شرح الحاجبية» والدماميني في «المزج على المغني»، وظاهر كلام القزويني في «الكشف على الكشاف» أنه يختاره‏.‏

ومعنى الجزاء في قوله‏:‏ ‏{‏فعلتها إذاً‏}‏ أن قول فرعون ‏{‏وفعلتَ فعلتك التي فعلت‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 19‏]‏ قصد به إفحام موسى وتهديده، فجعل موسى الاعتراف بالفعلة جزاء لذلك التهديد على طريقة القول بالموجَب، أي لا أتهيّب ما أردت‏.‏

وجعل مُوسى نفسه من الضالين إن كان مراد كلامه الذي حكت الآية معناه إلى العربية المعنَى المشهورَ للضلال في العربية وهو ضلال الفساد فيكون مراده‏:‏ أن سَوْرة الغضب أغفلته عن مراعاة حرمة النفس وإن لم يكن يومئذ شريعة ‏(‏فإن حفظ النفوس مما اتفق عليه شرائع البشر وتوارثوه في الفِتَر، ويؤيد هذا قوله في الآية الأخرى

‏{‏قال ربّ إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 16‏]‏‏)‏؛ وإن كان مراده معنى ضلال الطريق، أي كنت يومئذ على غير معرفة بالحق لعدم وجود شريعة، وهو معنى الجهالة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ووجدك ضالاً فهدى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 7‏]‏ فالأمر ظاهر‏.‏

وعلى كلا الوجهين فجواب موسى فيه اعتراف بظاهر التقرير وإبطال لما يستتبعه من جعله حجة لتكذيبه برسالته عن الله، ولذلك قابل قول فرعون ‏{‏وأنت من الكافرين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 19‏]‏ بقوله‏:‏ ‏{‏وأنا من الضالين‏}‏ إبطالاً لأن يكون يومئذ كافراً، ولذلك كان هذا أهم بالإبطال‏.‏

وبهذا يظهر وجه الاسترسال في الجواب بقوله‏:‏ ‏{‏فوهب لي ربي حكماً وجعلني من المرسلين‏}‏، أي فكان فراري قد عقبه أن الله أنعم عليّ فأصلح حالي وعلمني وهداني وأرسلني‏.‏ فليس ذلك من موسى مجرد إطناب بل لأنه يفيد معنى أن الإنسان ابن يومه لا ابنُ أمسِه، والأحوال بأوَاخرها فلا عجب فيما قصدتَ فإن الله أعلم حيث يجعل رسالاته‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ففررت منكم‏}‏ أي فراراً مبتدئاً منكم، لأنهم سبب فراره، وهو بتقدير مضاف، أي من خوفكم‏.‏ والضمير لفرعون وقومِه الذين ائتمروا على قتل موسى، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 20‏]‏‏.‏ والحكم‏:‏ الحِكمة والعلم، وأراد بها النبوءة وهي الدرجة الأولى حين كلمه ربّه‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وجعلني من المرسلين‏}‏ أي بعد أن أظهر له المعجزة وقال له‏:‏ ‏{‏إني اصطفيتك على الناس‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 144‏]‏ أرسله بقوله‏:‏ ‏{‏اذهَب إلى فرعون إنه طغى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 24‏]‏‏.‏

ثم عاد إلى أول الكلام فكرّ على امتنانه عليه بالتربية فأبطله وأبى أن يسميه نعمة، فقوله‏:‏ ‏{‏وتلك نعمة‏}‏ إشارة إلى النعمة التي اقتضاها الامتنان في كلام فرعون إذ الامتنان لا يكون إلا بنعمة‏.‏

ثم إن جعلت جملة ‏{‏أن عبدت‏}‏ بياناً لاسم الإشارة كان ذلك لزيادة تقرير المعنى مع ما فيه من قلب مقصود فرعون وهو على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقضينا إليه ذلك الأمر أنّ دابرَ هؤلاء مقطوعٌ مصبحين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 66‏]‏ إذ قوله ‏{‏أن دابر هؤلاء‏}‏ بيان لقوله‏:‏ ‏{‏ذلك الأمر‏}‏‏.‏

ويجوز أن يكون ‏{‏أن عبدت‏}‏ في محل نصب على نزع الخافض وهو لام التعليل والتقدير‏:‏ لأن عبَّدتَّ بني إسرائيل‏.‏

وقيل الكلام استفهام بحذف الهمزة وهو استفهام إنكار‏.‏ ومعنى ‏{‏عبدت‏}‏ ذَلَّلْت، يقال‏:‏ عبَّد كما يقال‏:‏ أعبد بهمزة التعدية‏.‏ أنشد أيمة اللغة‏:‏

حتّامَ يُعْبِدني قومي وقد كَثُرتْ *** فيهم آباعِرُ ما شاءوا وَعُبدان

وكلام موسى على التقادير الثلاثة نقض لامتنان فرعون بقلب النعمة نقمة بتذكيره أن نعمة تربيته ما كانت إلا بسبب إذلال بني إسرائيل إذ أمر فرعون باستئصال أطفال بني إسرائيل الذي تسبب عليه إلقاء أمّ موسى بطفلها في اليمّ حيث عثرت عليه امرأة فرعون ومن معها من حاشيتها وكانوا قد علموا أنه من أطفال إسرائيل بسِماتتِ وجهه ولون جلده، ولذلك قالت امرأة فرعون ‏{‏قُرتُ عين لي ولك لا تَقتلُوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 9‏]‏‏.‏ وفيه أن الإحسان إليه مع الإساءة إلى قومه لا يزيد إحساناً ولا منة‏.‏